فصل: الباب الثاني في العمران البدوي والأمم الوحشية والقبائل وما يعرض في ذلك من الأحوال

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  فصل ومن هؤلاء المريدين من المتصوفة

قوم بهاليل معتوهون أشبه بالمجانين من العقلاء وهم مع ذلك قد صحت لهم مقامات الولاية وأحوال الصديقين وعلم ذلك من أحوالهم من يفهم عنهم من أهل الذوق مع أنهم غير مكلفين‏.‏ ويقع لهم من الإخبار عن المغيبات عجائب لأنهم لا يتقيدون بشيء فيطلقون كلامهم في ذلك ويأتون منه بالعجائب‏.‏ وربما ينكر الفقهاء أنهم على شيء من المقامات لما يرون من سقوط التكليف عنهم والولاية لا تحصل إلا بالعبادة وهوغلط فإن فضل الله يؤتيه من يشاء ولا يتوقف حصول الولاية على العبادة ولا غيرها‏.‏ وإذا كانت النفس الأنسانية ثابتة الوجود فالله تعالى يخصها بما شاء من مواهبه‏.‏ وهؤلاء القوم لم تعدم نفوسهم الناطقة ولا فسدت كحال المجانين وإنما فقد لهم العقل الذي ينال به التكليف وهي صفة خاصة للنفس وهي علوم ضرورية للإنسان يشتد بها نظره ويعرف أحوال معاشه واستقامة منزله‏.‏ وكإنه إذا ميز أحوال معاشه واستقامة منزله لم يبق له عذر في قبول التكاليف لإصلاح معاده‏.‏ وليس من فقد هذه الصفة بفاقد لنفسه ولا ذاهل عن حقيقته فيكون موجود الحقيقة معدوم العقل التكليفي الذي هو معرفة المعاش ولا استحالة في ذلك ولا يتوقف اصطفاء الله عباده للمعرفة على شيء من التكاليف‏.‏ وإذا صح ذلك فاعلم أنه ربما يلتبس حال هؤلاء بالمجانين الذين تفسد نفوسهم الناطقة ويلتحقون بالبهائم‏.‏ ولك في تمييزهم علامات‏:‏ منها أن هؤلاء البهاليل تجد لهم وجهة ما لا يخلون عنها أصلاً من ذكر وعبادة لكن على غير الشروط الشرعية لما قلناه من عدم التكليف والمجانين لا تجد لهم وجهة أصلاً‏.‏ ومنها أنهم يخلقون على البله من أول نشأتهم والمجانين يعرض لهم الجنون بعد مدة من العمر لعوارض بدنية طبيعية فإذا عرض لهم ذلك وفسدت نفوسهم الناطقة ذهبوا بالخيبة‏.‏ ومنها كثرة تصرفهم في الناس بالخير والشر لأنهم لا يتوقفون على إذن لعدم التكليف في حقهم والمجانين لا تصرف لهم‏.‏ وهذا فصل انتهى بنا الكلام إليه والله المرشد للصواب‏.‏

  فصل وقد يزعم بعض الناس أن هنا مدارك للغيب من دون غيبة عن الحس

وقد يزعم بعض الناس أن هنا مدارك للغيب من دون غيبة عن الحس‏:‏ فمنهم المنجمون القائلون بالدلالات النجومية ومقتضى أوضاعها في الفلك وآثارها في العناصر وما يحصل من الإمتزاج بين طباعها بالتناظر ويتأدى من ذلك المزاج إلى الهواء‏.‏ وهؤلاء المنجمون ليسوا من الغيب في شيء إنما هي ظنون حدسية وتخمينات مبنية على التأثير النجومية وحصول المزاج منه للهواء مع مزيد حدس يقف به الناظر على تفصيله في الشخصيات في العالم كما قاله بطليموس‏.‏ ونحن نبين بطلان ذلك في محله إن شاء الله‏.‏ وهو لو ثبت فغايته حدس وتخمين وليس مما ذكرناه في شيء‏.‏ ومن هؤلاء قوم من العامة استنبطوا لاستخراج الغيب وتعرف الكائنات صناعة سموها خط الرمل نسبة إلى المادة التي يضعون فيها عملهم‏.‏ ومحصول هذه الصناعة أنهم صيروا من النقط أشكالاً ذات أربع مراتب تختلف باختلاف مراتبها في الزوجيه والفردية واستوائها فيهما فكانت ستة عشر شكلاً لأنها إن كانت أزواجاً كلها أو أفراداً كلها فشكلان وإن كان الفرد فيهما في مرتبتين واحده فقط فأربعة أشكال وإن كان الفرد في مرتبتين فستة أشكال وإن كان في ثلاث مراتب فأربعة أشكال‏.‏ جاءت ستة عشر شكلاً ميزوها كلها بأسمائها وأنواعها إلى سعود ونحوس شأن الكواكب وجعلوا لها ستة عشر بيتاً طبيعية بزعمهم وكأنها البروج الاثنا عشر التي للفلك والأوتاد الأربعة وجعلوا لكل شكل منها بيتاً وخطوطاً ودلالة على صنف من موجودات عالم العناصر يختص به واستنبطوا من ذلك فناً حاذوا به فن النجامة ونوع قضائه‏.‏ إلا أن أحكام النجامة مستندة إلى أوضاع طبيعية كما زعم بطليموس وهذه إنما مستندها أوضاع تحكمية وأهواء اتفاقية ولا دليل يقوم على شيء منها‏.‏ ويزعمون أن أصل ذلك من النبوات القديمة في العالم وربما نسبوها إلى دانيال أو إلى إدريس صلوات الله عليهما شأن الصنائع كلها‏.‏ وربما يدعون مشروعيتها ويحتجون بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ كان نبي يخط فمن وافق خطه فذاك ‏"‏‏.‏ وليس في الحديث دليل على مشروعية خط الرمل كما يزعمه بعض من لا تحصيل لديه لأن معنى الحديث كان نبي يخط فيأتيه الوحي عند ذلك بخط ولا استحالة في أن يكون ذلك عادة لبعض الأنبياء فمن وافق خطه ذلك النبي فهو ذاك أي فهو صحيح من بين الخط بما عضده من الوحي لذلك النبي الذي كانت عادته أن يأتيه الوحي عند الخط‏.‏ وأما إذا أخذ ذلك من الخط مجرداً من غير موافقة وحي فلا‏.‏ وهذا معنى الحديث والله أعلم‏.‏ فإذا أرادوا استخراج مغيب بزعمهم عمدوا إلى قرطاس أو رمل أو دقيق فوضعوا النقط سطوراً على عدد المراتب الأربع ثم كرروا ذلك أربع مرات فتجيء ستة عشر سطراً‏.‏ ثم يطرحون النقط أزواجاً ويضعون ما بقي من كل سطر زوجاً كان أو فرداً في مرتبته على الترتيب فتجيء أربعة أشكال يضعونها في سطر متتالية ئم يولدون منها أربعة أشكال آخرى من جانب العرض باعتبار كل مرتبة وما قابلها من الشكل الذي بإزائه وما يجتمع منهما من زوج أو فرد فتكون ثمانية أشكال موضوعة في سطر ثم يولدون من كل شكلين شكلاً تحتهما باعتبار ما يجع في كل مرتبة من مراتب الشكلين أيضاً من زوج أو فرد فتكون أربعة أخرى تحتها ثم يولدون من الأربعة شكلين كذلك تحتها ثم من الشكلين شكلاً كذلك تحتهما ثم من هذا الشكل الخامس عشر مع الشكل الأول شكلاً يكون آخر الستة عشر‏.‏ ثم يحكمون على الخط كله بما اقتضته أشكاله من السعودة والنحوسة بالذات والنظر والحلول والامتزاج والدلالة على أصناف الموجودات وسائر ذلك تحكماً غريباً‏.‏ وكثرت هذه الصناعة في العمران ووضعت فيها التآليف واشتهر فيها الأعلام من المتقدمين والمتآخرين وهي كما رأيت تحكم وهوى‏.‏ والتحقيق الذي ينبغي أن يكون نصب فكرك أن الغيوب لا تدرك بصناعة البتة ولا سبيل إلى تعرفها إلا للخواص من البشر المفطورين على الرجوع عن عالم الحس إلى عالم الروح‏.‏ ولذلك يسمي المنجمون هذا الصنف كلهم بالزهريين نسبة إلى ما تقتضيه دلالة الزهرة بزعمهم في أصل مواليدهم على إدراك الغيب‏.‏ فالخط وغيره من هذه إن كان الناظر فيه من أهل هذه الخاصية وقصد بهذه الأمور التي ينظر فيها من النقط أو العظام أو غيرها أشغال الحس لترجع النفس إلى عالم الروحانيات لحظة ما فهو من باب الطرق بالحصى والنظر في قلوب الحيوانات والمرايا الشفافة كما ذكرناه‏.‏ وإن لم يكن كذلك وإنما قصد معرفة الغيب بهذه الصناعة وإنها تفيده ذلك فهذر من القول والعمل‏.‏ والله يهدي من يشاء‏.‏ والعلامة لهذه الفطرة التي فطر عليها أهل هذا الإدراك الغيبي أنهم عند توجههم إلى تعرف الكائنات يعتريهم خروج عن حالتهم الطبيعية كالتثاؤب والتمطط ومبادىء الغيبة عن الحس ويختلف ذلك بالقوة والضعف على اختلاف وجودها فيهم‏.‏ فمن لم توجد له هذه العلامة فليس من إدراك الغيب في شيء وإنما هو ساع في تنفيق كذبه‏.‏ فصل ومنهم طوائف يضعون قوانين لاستخراج الغيب ليست من الطور الأول الذي هو من مدارك النفس الروحانية ولا من الحدس المبني على تأثيرات النجوم كما زعمه بطليموس ولا من الظن والتخمين الذي يحاول عليه العرافون وإنما هي مغالط يجعلونها كالمصائد لأهل العقول المستضعفة‏.‏ ولست أذكر من ذلك إلا ما ذكره المصنفون وولع به الخواص‏.‏ فمن تلك القوانين الحساب الذي يسمونه حساب النيم وهو مذكور في آخر كتاب السياسة المنسوب لأرسطو يعرف به الغالب من المغلوب في المتحاربين من الملوك‏.‏ وهو أن تحسب الحروف التي في اسم أحدهما بحساب الجمل المصطلح عليه في حروف أبجد من الواحد إلى الألف آحاداً وعشرات ومئين وألوفاً‏.‏ فإذا حسبت الاسم وتحصل لك منه عدد فاحسب اسم الآخر كذلك‏.‏ ثم اطرح من كل واحد منهما تسعة تسعة واحفظ بقية هذا وبقية هذا‏.‏ ثم انظر بين العددين الباقيين من حساب الاسمين‏:‏ فإن كان العددان مختلفين في الكمية وكانا معاً زوجين أو فردين معاً فصاحب الأقل منهما هو الغالب وإن كان أحدهما زوجاً والآخر فرداً فصاحب الأكثر هو الغالب وإن كانا متساويين في الكمية وهما معاً زوجان فالمطلوب هو الغالب وإن كانا معاً فردين فالطالب هو الغالب‏.‏ ويقال هنالك بيتان في هذا العمل اشتهرا بين الناس وهما‏:‏ أرى الزوج والأفراد يسمو أقلها وأكثرها عند التخالف غالب ويغلب مطلوب إذا الزوج يستوي وعند استواء الفرد يغلب طالب ثم وضعوا لمعرفة ما بقي من الحروف بعد طرحها بتسعة قانوناً معروفاً عندهم في طرح تسعة وذلك أنهم جمعوا الحروف الدالة على الواحد في المراتب الأربع وهي‏:‏ ‏"‏ أ ‏"‏ الدالة على الواحد و ‏"‏ ي ‏"‏ الدالة على العشرة و هي واحد في مرتبه العشرات و ‏"‏ ق ‏"‏ الدالة على المائة لأنها واحد في مرتبة المئين ‏"‏ وش ‏"‏ الدالة على الألف لأنها واحد في مرتبة الآلاف‏.‏ وليس بعد الألف عدد يدل ثم رتبوا هذه الأحرف الأربعة على نسق المراتب فكان منها كلمة رباعية وهي ‏"‏ ايقش ‏"‏‏.‏ ثم فعلوا ذلك بالحروف الدالة على اثنين في المراتب الثلاث وأسقطوا مرتبة الألاف منها لأنها كانت آخر حروف أبجد فكان مجموع حروف الاثنين في المراتب الثلاث ثلاثة حروف‏:‏ وهي ‏"‏ ب ‏"‏ الدالة على اثنين في الأحاد و ‏"‏ ك ‏"‏ الدالة على اثنين في العشرات وهي عشرون و ‏"‏ ر ‏"‏ الدالة على اثنين في المئين وهي مائتان وصيروها كلمة واحدة ثلاثية على نسق المراتب وهي بكر‏.‏ ثم فعلوا ذلك بالحروف الدالة على ثلاثة فنشأت عنها كلمة جلس‏.‏ وكذلك إلى آخر حروف أبجد‏.‏ وصارت تسع كلمات نهاية عدد الأحاد وهي ‏"‏ إيقش بكر جلس دمت هنث وصخ زغد حفظ طضغ ‏"‏‏.‏ مرتبة على توالي الأعداد ولكل كلمة منها عددها الذي هي في مرتبته فالواحد لكلمة أيقش والاثنان لكلمة بكر والثلاثة لكلمة جلس وكذلك إلى التاسعة التي هي طضغ فتكون لها التسعة‏.‏ فإذا أرادوا طرح الاسم بتسعة نظروا كل حرف منه في أي كلمة هو من هذه الكلمات وأخذوا عددها مكانه ثم جمعوا الأعداد التي يأخذونها بدلاً من حروف الاسم فإن كانت زائدة على التسعة أخذوا ما فضل عنها وإلا أخذوه كما هو ثم يفعلون كذلك بالاسم الآخر وينظرون بين الخارجين بما قدمناه‏.‏ والسر في هذا القانون بين‏.‏ وذلك أن الباقي من كل عقد من عقود الأعداد بطرح تسعة إنما هو واحد فكأنه يجمع عدد العقود خاصة من كل مرتبة فصارت أعداد العقود كأنها آحاد فلا فرق بين الاثنين والعشرين والمائتين والألفين وكلها اثنان وكذلك الثلاثة والثلاثون والثلثمائة والثلاثة الألاف كلها ثلاثة ثلاثة‏.‏ فوضعت الأعداد على التوالي دالة على أعداد العقود لا غير وجعلت الحروف الدالة على أصناف العقود في كل كلمة من الأحاد والعشرات والمئين والألوف وصارعدد الكلمة الموضوع عليها نائباً عن كل حرف فيها سواء دل على الأحاد أو العشرات أو المئين فيؤخد عدد كل كلمة عوضاً عن الحروف التي فيها وتجمع كلها إلى آخرها كما قلناه‏.‏ هذا هو العمل المتداول بين الناس منذ الأمر القديم‏.‏ وكان بعض من لقيناه من شيوخنا يرى أن الصحيح فيها كلمات أخرى تسعة مكان هذه ومتوالية كتواليها ويفعلون بها في الطرح بتسعة مثل ما يفعلونه با لأخرى سواء وهي هذه أرب يسقك جزلط مدوص هف تحذن عش خغ تضظ تسع كلمات على توالي العدد ولكل كلمة منها عدها الذي في مرتبته فيها الثلاثي والرباعي والثنائي‏.‏ وليست جارية على أصل مطرد كما تراه‏.‏ لكن كان شيوخنا ينقلونها عن شيخ المغرب في هذه المعارف من السيمياء وأسرار الحروف والنجامة وهو أبو العباس بن البناء ويقولون عنه إن العمل بهذه الكلمات في طرح حساب النيم أصح من العمل بكلمات أيقش‏.‏ والله أعلم كيف ذلك‏.‏ وهذه كلها مدارك للغيب غير مستندة إلى برهان ولا تحقيق‏.‏ والكتاب الذي وجد فيه حساب النيم غير معزو إلى أرسطو عند المحققين لما فيه من الأراء البعيدة عن التحقيق والبرهان يشهد لك بذلك تصفحه إن كنت من أهل الرسوخ‏.‏ ومن هذه القوانين الصناعية لاستخراج الغيوب فيما يزعمون الزايرجة المسماة بزايرجة العالم ‏"‏ المعزوة إلى أبي العباس سيدي أحمد السبتي من أعلام المتصوفة بالمغرب كان في آخر المائة السادسة بمراكش ولعهد أبي يعقوب المنصور من ملوك الموحدين‏.‏ وهي غريبة العمل صناعة‏.‏ وكثير من الخواص يولعون بإفادة الغيب منها بعملها المعروف الملغوز فيحرضون بذلك على حل رمزه وكشف غامضه‏.‏ وصورتها التي يقع العمل عندهم فيها دائرة عظيمة في داخلها دوائر متوازية للأفلاك والعناصر والمكونات والروحانيات وغير ذلك من أصناف الكائنات والعلوم‏.‏ وكل دائرة مقسومة بأفسام فلكها‏:‏ إما البروج وإما العناصر أو غيرهما‏.‏ وخطوط كل قسم مارة إلى المركز ويسمونها الأوتار‏.‏ وعلى كل وتر حروف متتابعة موضوعة فمنها برشوم الزمام التي هي أشكال الأعداد عند أهل الدواوين والحساب بالمغرب لهذا العهد ومنها برشوم الغبار المتعارفة في داخل الزايرجة‏.‏ وبين الدوائر أسماء العلوم ومواضع الأكوان‏.‏ وعلى ظاهر الدوائر جدول متكثر البيوت المتقاطعة طولاً وعرضاً يشتمل على خمسة وخمسين بيتاً في العرض ومائة وواحد وثلاثين في الطول جوانب منه معمورة البيوت تارة بالعدد وأخرى بالحروف وجوانب التي عينت البيوت العامرة من الخالية‏.‏ وحافات الزايرجة أبيات من عروض الطويل على على روي اللام المنصوبة تتضمن صورة العمل في استخراج المطلوب من تلك الزايرجة‏.‏ الا أنها من قبيل الألغاز في عدم الوضوح والجلاء‏.‏ وفي بعض جوانب الزايرجة بيت من الشعر منسوب لبعض أكابر أهل الحدثان بالمغرب وهو مالك بن وهيب من علماء اشبيلية كان في الدولة اللمتونية ونص البيت‏:‏ سؤال عظيم الخلق حزت فصن إذن غرائب شك ضبطه الجد مثلا وهو البيت المتداول عندهم في العمل لاستخراج الجواب من السؤال في هذه الزايرجة وغيرها‏.‏ فإذا أرادوا استخراج الجواب عما يسأل عنه من المسائل كتبوا ذلك السؤال وقطعوه حروفاً ثم أخذوا الطالع لذلك الوقت من بروج الفلك ودرجها وعمدوا إلى الزايرجة ثم إلى الوتر المكتنف فيها بالبرج الطالع من أوله ماراً إلى المركز ثم إلى محيط الدائرة قبالة الطالع‏.‏ فيأخذون جميع الحروف المكتوبة عليه من أوله إلى أخره والأعداد المرسومة بينهما ويصيرونها حروفاً بحساب الجمل‏.‏ وقد ينقلون آحادها إلى العشرات وعشراتها إلى المئين وبالعكس فيهما كما يقتضيه قانون العمل عندهم‏.‏ ويضعونها مع حروف السؤال ويضيفون إلى ذلك جميع ما على الوتر المكتنف بالبرج الثالث من الطالع من الحروف والأعداد من أوله إلى ا لمركز فقط لا يتجاوزونه إلى المحيط‏.‏ ويفعلون بالأعداد ما فعلوه بالأول ويضيفونها إلى الحروف الأخرى‏.‏ ثم يقطعون حروف البيت الذي هو أصل العمل وقانونه عندهم وهو بيت مالك بن وهيب المتقدم ويضعونها ناحية ثم يضربون عدد درج الطالع في أس البرج‏.‏ وأسه عندهم هو بعد البرج عن آخر المراتب عكس ما عليه الأس عند أهل صناعة الحساب فإنه عندهم البعد عن أول المراتب‏.‏ ثم يضربونه في عدد آخر يسمون الأس الأكبر والدور الأصلي‏.‏ ويدخلون بما تجمع لهم من ذلك في بيوت الجدول على قوانين معروفة وأعمال مذكورة وأدوار معدودة‏.‏ ويستخرجون منها حروفاً ويسقطون أخرى‏.‏ ويقابلون بما معهم في حروف البيت وينقلون منه ما ينقلون إلى حروف السؤال وما معها ثم يطرحون تلك الحروف بأعداد معلومة يسمونها الأدوار ويخرجون في كل دور الحرف الذي ينتهي عنه الدور يعاودون ذلك بعدد الأدوار المعينة عندهم لذلك فيخرج آخرها حروف متقطعة وتؤلف على التوالي فتصير كلمات منظومة في بيت واحد على وزن البيت الذي يقابل به العمل ورويه وهو بيت مالك بن وهيب المتقدم حسبما نذكر ذلك كله في فصل العلوم عند كيفية العمل بهذه الزايرجة‏.‏ وقد رأينا كثيراً من الخواص يتهافتون على استخراج الغيب منها بتلك الأعمال ويحسبون أن ما وقع من مطابقة الجواب للسؤال في توافق الخطاب دليل على مطابقة الواقع‏.‏ وليس ذلك بصحيح لأنه قد مر لك أن الغيب لا يدرك بأمر صناعي البتة وإنما المطابقة التي فيها بين الجواب والسؤال من حيث الأفهام والتوافق في الخطاب حتى يكون الجواب مستقيماً أو موافقاً للسؤال‏.‏ ووقوع ذلك بهذه الصناعة في تكسير الحروف المجتمعة من السؤال والأوتار‏.‏ والدخول في الجدول بالأعداد المجتمعة من ضرب الأعداد المفروضة واستخراج الحروف من الجدول بذلك وطرح آخرى ومعاودة ذلك في الأدوار المعدودة ومقابلة ذلك كله بحروف البيت على التوالي غير مستنكر‏.‏ وقد يقع الأطلاع من بعض الأذكياء على تناسب بين هذه الأشياء فيقع له معرفة المجهول‏.‏ فالتناسب بين الأشياء هو سبب الحصول على المجهول من المعلوم الحاصل للنفس وطريق لحصوله ولا سيما من أهل الرياضة فإنها تفيد العقل قوة القياس وزيادة في الفكر‏.‏ وقد مر تعليل ذلك غير مرة‏.‏ ومن أجل هذا المعنى ينسبون هذه الزايرجة في الغالب لأهل الرياضة فهي منسوبة للسبتي‏.‏ ولقد وقفت على أخرى منسوبة لسهل بن عبد الله‏.‏ ولعمري أنها من الأعمال الغريبة والمعاناة العجيبة والجواب الذي يخرج منها فالسر في خروجه منظوماً يظهر لي إنما هو المقابلة بحروف ذلك البيت‏.‏ ولهذا يكون النظم على وزنه ورويه‏.‏ ويدل عليه أنا وجدنا أعمالاً أخرى لهم في مثل ذلك أسقطوا فيها المقابلة بالبيت فلم يخرج الجواب منظوماً كما تراه عند الكلام على ذلك في موضعه‏.‏ وكثيرمن الناس تضيق مداركهم عن التصديق بهذا العمل ونفوذه إلى المطلوب فينكر صحتها ويحسب أنها من التخيلات والإيهامات وأن صاحب العمل بها يثبت حروف البيت الذي ينظمه كما يريد بين أثناء حروف السؤال والأوتار ويفعل تلك الصناعات على غير نسبة ولا قانون ثم يجيء بالبيت ويوهم أن العمل جاء على طريقة منضبطة‏.‏ وهذا الحسبان توهم فاسد حمل عليه القصور من فهم التناسب بين الموجودات والمعدومات والتفاوت بين المدارك والعقول‏.‏ ولكن من شأن كل مدرك إنكار ما ليس في طوقه إدراكه‏.‏ ويكفينا في رد ذلك مشاهدة العمل بهذه الصناعة والحدس القطعي فإنها جاءت بعمل مطرد وقانون صحيح لا مرية فيه عند من يباشر ذلك ممن له ذلك وحدس‏.‏ وإذا كان كثير من المعاياة في العدد الذي هو أوضح الواضحات يعسر على الفهم إدراكه لبعد النسبة فيه وخفائها فما ظنك بمثل هذا مع خفاء النسبة فيه وغرابتها‏.‏ فلنذكر مسألة من المعاياة يتضح لك بها شيء مما ذكرنا‏.‏ مثاله‏:‏ لو قيل لك خذ عدداً من الدراهم واجعل بإزاء كل درهم ثلاثة من الفلوس ثم اجمع الفلوس التي أخذت واشتر بها طائراً ثم اشتر بالدراهم كلها طيوراً بسعر ذلك الطائر فكم الطيور المشتراة بالدراهم والفلوس فجوابه أن تقول هي تسعة‏.‏ لأنك تعلم أن فلوس الدراهم أربعة وعشرون وأن الثلاثة ثمنها وأن عدة أثمان الواحد ثمانية فإذا جمعت الثمن من الدراهم إلى الثمن الآخر فكان كله ثمن طائر فهي ثمانية طيور عدة أثمان الواحد وتزيد على الثمانية طائراً آخر وهو المشترى بالفلوس المأخوذة أولاً وعلى سعره اشتريت بالدراهم فتكون تسعة‏.‏ فأنت ترى كيف خرج لك الجواب المضمر بسر التناسب الذي بين أعداد المسألة‏.‏ والوهم أول ما يلقي إليك هذه وأمثالها إنما يجعله من قبيل الغيب الذي لا يمكن معرفتة‏.‏ وظهر أن التناسب بين الأمور هو الذي يخرج مجهولها من معلومها‏.‏ وهذا إنما هو في الواقعات الحاصلة في الوجود أو العلم‏.‏ وأما الكائنات المستقبلة إذ ا لم تعلم أسباب وقوعها ولا يثبت لها خبر صادق عنها فهو غيب لا يمكن معرفته‏.‏ وإذا تبين لك ذلك فالأعمال الواقعة في الزايرجة كلها إنما هي في استخراج الجواب من ألفاظ السؤال لأنها كما رأيت استنباط حروف على ترتيب من تلك الحروف بعينها على ترتيب آخر‏.‏ وسر ذلك إنما هو من تناسب نينهما يطلع عليه بعض دون بعض‏.‏ فمن عرف ذلك التناسب تيسر عليه استخراج ذلك الجواب بتلك القوانين‏.‏ والجواب يدل في مقام آخر من حيث موضوع ألفاظه وتراكيبه على وقوع أحد طرفي السؤال من نفي أو إثبات‏.‏ وليس هذا من المقام الأول بل إنما يرجع لمطابقة الكلام لما في الخارج‏.‏ ولا سبيل إلى معرفة ذلك من هذه الأعمال بل البشر محجوبون عنه وقد استأثره الله بعلمه ‏"‏ والله يعلم وأنتم لا تعلمون ‏"‏‏.‏

  الباب الثاني في العمران البدوي والأمم الوحشية والقبائل وما يعرض في ذلك من الأحوال

وفيه فصول وتمهيدات

  الفصل الأول في أن أجيال البدو والحضر طبيعية

اعلم أن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش فإن اجتماعهم إنما هو للتعاون على تحصيله والابتداء بما هو ضروري منه وبسيط قبل الحاجي والكمالي‏.‏ فمنهم من يستعمل الفلح من الغراسة والزراعة ومنهم من ينتحل على الحيوان من الغنم والبقر والمعز والنحل والدود لنتاجها واستخراج فضلاتها‏.‏ وهؤلاء القائمون‏.‏ على الفلح والحيوان تدعوهم الضرورة ولا بد إلى البدو لأنه متسع لما له الحواضر من المزارع والفدن والمسارح للحيوان وغير ذلك‏.‏ فكان اختصاص هؤلاء بالبدو أمراً ضرورياً لهم وكان حينئذ اجتماعهم وتعاونهم في حاجاتهم ومعاشهم وعمرانهم من القوت والكن والدفاءة إنما هو بالمقدار الذي يحفظ الحياة ويحضل بلغة العيش من غير مزيد عليه ثم إذا اتسعت أحوال هؤلاء المنتحلين للمعاش وحصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرفه دعاهم ذلك إلى السكون والدعة وتعاونوا في الزائد على الضرورة واستكثروا من الأقوات والملابس والتأنق فيها وتوسعة البيوت واختطاط المدن والأمصار للتحضر‏.‏ ثم تزيد أحوال الرفه والرفه والدعة فتجيء عوائد الترف البالغة مبالغها في التأنق في علاج القوت واستجادة المطابخ وانتقاء الملابس الفاخرة في أنواعها من الحرير والديباج وغير ذلك ومعالاة البيوت والصروح وإحكام وضعها في تنجيدها والانتهاء في الصنائع في الخروج من القوة إلى الفعل إلى غاياتها فيتخذون القصور والمنازل ويجرون فيها المياه ويعالون في صرحها ويبالغون في تنجيدها ويختلقون في استجادة ما يتخذونه لمعاشهم من ملبوس أو فراش أو آنية أو ماعون‏.‏ وهؤلاء هم الحضر ومعناه الحاضرون أهل الأمصار والبلدان‏.‏ ومن هؤلاء من ينتحل في معاشه الصنائع ومنهم من ينتحل التجارة‏.‏ وتكون مكاسبهم أنمى وأرفه من أهل البدو لأن أحوالهم زائدة على الضروري ومعاشهم على نسبة وجدهم‏.‏ فقد تبين أن أجيال البدو والحضر طبيعية لا بد منهما كما قلناه‏.‏

  الفصل الثاني

قد قدمنا في الفصل قبله أن أهل البدو هم المنتحلون للمعاش الطبيعي من الفلح والقيام على الأنعام وأنهم مقتصرون على الضروري من الأقوات والملابس والمساكن وسائر الأحوال والعوائد ومقصرون عما فوق ذلك من حاجي أو كمالي يتخذون البيوت من الشعر والوبر أو الشجر أو من الطين والحجارة غير منجدة إنما هو قصد الاستظلال والكن لا ما وراءه وقد يأوون إلى الغيران والكهوف‏.‏ وأما أقواتهم فيتناولون بها يسيراً بعلاج أو بغير علاج البتة إلا ما مسته النار‏.‏ فمن كان معاشه منهم في الزراعة والقيام بالفلح كان المقام به أولى من الظعن وهؤلاء سكان المدر والقرى والجبال وهم عامة البربر والأعاجم‏.‏ ومن كان معاشه في السائمة مثل الغنم‏.‏ والبقر فهم ظعن في الأغلب لارتياد المسارح والمياه لحيواناتهم فالتقلب في الأرض أصلح بهم ويسمون شاوية ومعناه القائمون على الشاء والبقر ولا يبعدون في القفر لفقدان المسارح الطيبة ة وهولاء مثل البربر والترك وإخوانهم من التركمان والصقالبة‏.‏ وأما من كان معاشهم في الأبل فهم أكثر ظعناً وأبعد في القفر مجالاً لأن مسارح التلول ونباتها وشجرها لا يستغني بها الأبل في قوام حياتها عن مراعي الشجر بالقفر وورود مياهه الملحة والتقلب فصل الشتاء في نواحيه فراراً من أذى البرد إلى دفاءة هوائه وطلباً لماخض النتاج في رماله إذ الأبل أصعب الحيوان فصالاً ومخاضاً وأحوجها في ذلك إلى الدفاءة فاضطروا إلى أبعاد النجعة‏.‏ وربما ذادتهم الحامية عن التلول أيضاً فأوغلوا في القفار نفرة عن الضعة منهم فكانوا لذلك أشد الناس توحشاً وينزلون من أهل الحواضر منزلة الوحش غير المقدور عليه والمفترس من الحيوان العجم وهؤلاء هم العرب وفي معناهم ظعون البربر وزناتة بالمغرب والأكراد والتركمان والترك بالمشرق‏.‏ إلا أن العرب أبعد نجعة وأشد بداوة لأنهم مختصون بالقيام على الإبل فقط وهؤلاء يقومون عليها وعلى الشياه والبقر معها‏.‏ فقد تبين لك أن جيل العرب طبيعي لا بد منه في العمران‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

  الفصل الثالث في أن البدو أقدم من الحضر وسابق عليه

وأن البادية أصل العمران والأمصار مدد لهما قد ذكرنا أن البدو هم المقتصرون على الضروري في أحوالهم العاجزون عما فوقه وأن الحضر المعتنون بحاجات الترف والكمال في أحوالهم وعوائدهم‏.‏ ولا شك أن الضروري أقدم من الحاجي والكمالي وسابق عليهما لأن الضروري أصل والكمالي فرع ناشىء عنه‏.‏ فالبدو أصل للمدن والحضر وسابق عليهما لأن أول مطالب الإنسان الضروري ولا ينتهي إلى الكمال والترف إلا إذ ا كان الضروري حاصلاً‏.‏ فخشونة البداوة قبل رقة الحضارة‏.‏ ولهذا نجد التمدن غاية للبدوي يجري إليها وينتهي بسعيه إلى مقترحه منها‏.‏ ومتى حصل على الرياش الذي يحصل له به أحوال الترف وعوائده عاج إلى الدعة وأمكن نفسه إلى قياد المدينة‏.‏ وهكذا شأن القبائل المتبدية كلهم‏.‏ والحضري لا يتشوف إلى أحوال البادية إلا لضرورة تدعوه إليها أو لتقصير عن أحوال أهل مدينته‏.‏ ومما يشهد لنا أن البدو أصل للحضر ومتقدم عليه أنا إذا فتشنا أهل مصر من الأمصار وجدنا أولية أكثرهم من أهل البدو الذين بناحية ذلك المصر وفي قراه وأنهم أيسروا فسكنوا المصر وعدلوا إلى الدعة والترف الذي في الحضر‏.‏ وذلك يدل على أن أحوال الحضارة ناشئة عن أحوال البداوة وأنها أصل لها فتفهمه‏.‏ ثم أن كل واحد من البدو والحضر متفاوت الأحوال من جنسه‏:‏ فرب حي أعظم من حي وقبيلة أعظم من قبيلة ومصر أوسع من مصر ومدينة أكثر عمراناً من مدينة‏.‏ فقد تبين أن وجود البدو متقدم على وجود المدن والأمصار وأصل لها بما أن وجود المدن والأمصار من عوائد الترف والدعة التي هي متأخرة عن عوائد الضرورة المعاشية والله أعلم‏.‏